***********************
عنوان القصة : إجازة زوجة
تأليف : خولة القزويني
***********************
إجازة زوجة ..
كنت في حاجة إلى هذه الإجازة .. قرار خاص كان يعتمل في صدري ، أشهر عدة ويلح عليّ بإصرار حتى حمّلت نفسي مشقة التفكير فيه بهوادة لأدفع عن نفسي ثقل هواجس طحنت بحوافرها خيالاتي الآمنة .
أرنو بعيني الساهمتين إلى حقيبتي المسجاة أمامي ، فقد دفنت فيها سنين أحلامي وأطياف عمري ، يعبث بقفلها طفلي جاسم برعمة قلبي المخضرة بالآمال ، يرفرف كطير طليق في فضاء روحي مذهولاً ، يبحث في دخائله البكر عن شيء مبهم ترك شروداً وتجهماً على وجهي اخترق الصمت وتوارى خلف قناع الحقيقة ، يبعث الفضول وتحدي المجهول بعضاً من الفهم تلتقطه حواسه البكر .
( أمي متى نعود للبيت ؟ لقد سئمت هذا المكان ) والشوق الذي يكمن في عقله يجول في النفس ويضرم فيها حدة المشاعر ، أبتسم في غياب :
_ " قريباً يا حبيبي " .
تركت المكان وأنا أهرب إلى النافذة لأخفي عن أبني حيرة نفسي واعتلال وجداني ..
هامت روحي في ذلك الفضاء الرحيب أستنشق عبير الكون ، ما يذيب عن قلبي المعنى بقايا أوجاع لا زالت أصداؤها تصرخ في أعصابي كلما ومضت في الذاكرة بارقة خاطفة تقطع علّي حبل الود وتبدد أحلى الأيام ، لأدرك حقيقة هذه الحادثة .... ثمة شيء كمن في ذاته دفعة عنوة إلى الخادمة ، لحظة ضعف ! انهيار قيم ! فورة مجنونة ! علاقة بخادمة لا تحتمل الشك كشفت أمرهما صدفة ، اضطربت نفسي منذ ذلك اليوم ، لم تعد قناعاتي به تثبت على نسق واحد ، فأواصر ثقتي به قد تمزقت ، وإيماني به قد تغلف بشك وريبة ، أشياء كثيرة فقدت مصداقيتها في حياتي ... بعد أن أثمر هذا الحب طفلنا جاسم يرتجف زوجي رجفة الشيطان وينساق خلسة إلى حب غامض يتكتمه ويداريه خشية افتضاح أمره .
الماجنة اللعوب كانت تنسج خيوط خبثها وكراً لأطماعها .. الأيام التي أغيب فيها عن البيت تلزم مكانها متعللة بالمرض ، لتغزل شباكها على مهل وتركن في عش غرامها الموبوء ، ليهفو إليها زوجي طوع إرادتها ، ويطير إلى عشها على جناح الحب والرغبة ، لقد كنت مغفلة ، غبية ، ساذجة ، تركت لها بيتاً غير محصن ، أسواره من قش ، جدران البيت ثرثرت كثيراً ووشت بهما ، ثمة همس لا تدركه الأسماع إلا بشق الأنفس ، وإيماءات مريبة تصطبغ بصبغة حمراء تتوارى خوفاً وتترقب الأبصار خلسة ...
أنفاسها المتهدجة لوعة ، رجفتها الوجلة حينما تسمع صوته ، وانحلالها كلما لمحت طيفه ، قلقها الذي لا يحتمل أي تبرير ، أدركت الآن وبعد فوات الأوان حجم الكارثة التي دمرت حياتي ...
لست أدري هل كان مقدراً أن أقع عليهما صدفة لأقطع الطريق على هذا الجنون العاثر وأحتوي علاقة لا يمكن التنبؤ بمداها ... الذاكرة مريرة تنشط في دفع الدقائق والتفاصيل إلى السطح ، كأنها مصباح ساطع النور يجلي الحقائق الثقيلة الوقع على النفس لتزدردها الروح على مضض ، حينما كان أحمد يسرف في تدليلها على نحو يثير دهشتي ، غضبته الشرسة كلما اغتظت منها صارخة ، يعنفني ، يؤنبني ، يستثير فيّ مكامن الرحمة والعطف ، يتململ قلقاً كلم طلبت منها أن تغسل سيارتي ( لا ينبغي أن تخرج للشارع ) ما هذه الرحمة التي حلَت على قلبك ، كل الخادمات يقمن بهذا العمل ! على الفور طلب لنا أحد الخدم للقيام بهذه الخدمة ، منعها من الخروج ، حدد لها المهمات والواجبات حتى لا تبذل المزيد من الجهد والعناء ، وناهيك عن أنه خلال رحلاته إلى خارج البلاد كان يحمل لها الهدايا الثمينة ، وكنت أبرر هذا النوع من الاهتمام على أنه مكافأة وتشجيع لها على جهودها المضاعفة ، يا إلهي لم أكن أصدق أن هناك علاقة تنسج خيوطها في الخفاء ، ربما لأنها لم تكن جميلة ، تكتنف أنوثتها بعض الثغرات التي تجفل الرجل ، وجهها ينغمس في استدارات غائرة تفضح طفولة ساذجة لا تجد فيها صفات جذابة ، شيء تألفه مع آلاف الوجوه ، ناهيك عن قامتها الضامرة التي هي أقرب إلى الصبيان منها إلى الإناث ،عندما نخرج معاً تخبو صورتها أمام وهج جمالي واكتناز قامتي ، تذوب في جلجلة سحري وصخب فتنتي ، هل جننت حتى ألتفت إليها أو أشك لحظة في تأثيرها على زوجي ، لا يمكن أن أقارن نفسي بمن دوني مقاماً ، هذه النكرة التي هي أشبه بمسخ ، صورة باهتة الملامح تذروها رياح الأيام فتذرها هباء ، لكني لا أنكر أبداً أنها شعلة نشاط موّارة بالحركة وفورة العزيمة لا تخبو ، تطهو أطايب الطعام حتى في أيام حميتي كانت تتفنن في صنع الأطباق النباتية ، تنهض باكراً لتعد الشاي المعطر لزوجي ثم تكوي ثيابه وتشيّعه حتى باب الدار ، تفتح النوافذ ليتسلل ضوء الشمس إلى الصالة التي كنا نجتمع فيها دوماً ، وفي الأيام التي أغيب فيها عن البيت لسفر طارئ أو في مهمة رسمية تقتضيها مصلحة عملي في الجمعية النسائية كانت ترعى طفلي وزوجي وتوفر لهما العناية الكافية ، وأثناء انشغالي المتقطع تعد الغذاء والعشاء لزوجي ، وعندما يعود منهكاً في المساء تحضر له الحمام الدافئ مع الأعشاب ، وفور أن ينتهي من حمامه تستقبله بالشاي الساخن وقطع الكيك ، وإن بدا غاضباً منزعجاً سارعت إلى إحضار عصير الليمون الطازج لتهدأ أعصابه ، تترقب أوقات خروجه ودخوله ، وأنا من كنت أسألها متى يحضر السيد ... متى غادر المنزل ... هل ترك رسالة .. لقد تمكنت تماماً من السيطرة على منافذ البيت وعرفت كيف تتسلل ، وأين تكمن الثغرات والنقائض ، احتوتنا جميعاً بثوراتنا اليومية ، أسرارنا ، شجارنا ، مزاجنا ، تمتص وتحتوي حتى تذيب الأجواء المشحونة بهدوئها وسكونها ، حينما أعود مضطرة لطارئ إلى
Copyright ©2010 - 2011 zankalooni.hooxs.com
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات زنكلوني®
تتمه ..
البيت أراها تقف عند رأس زوجي وهو يتناول الطعام وكأنها جارية من جواري ألف ليلة وليلة ، يتحدث إليها وهو في كامل ارتياحه ، أما الأيام التي تقع فيها فريسة للمرض والتعب ينشل البيت تماماً ، وتنقلب حياتنا رأساً على عقب ، يثور أحمد بشكل ملحوظ فأضطر أن أجاريه بعض الشيء وألبي طلباته ، ولكني أتعثر في سد الفراغ الذي تتركه ( ماري ) إذ كانت المحور الأساسي الذي يدور عليه نظام البيت ، والمحرك الرئيسي في تنشيط أجوائه وبعث الحيوية فيه ، وفور أن تتعافى تعم البهجة علينا ، فتعود الإشراقة إلى حياتنا من جديد ، لقد أعتدنا عليها ، غرف البيت كانت مليئة بالحياة ، ففي كل صباح تفتح النوافذ ليتسلل النور والهواء إلى قلب البيت ليتنفس صباحاً جديداً بالأمل ، ترفرف الستائر كلما ضربتها أمواج الهواء السارحة ، تبتهج مع عصافير الصباح ، أشم رائحة الغسيل تختمر برائحة الخبز المحمص تأتيني وأنا راقدة في فراشي ، الملاءات الناصع البياض ينضح أريج الصابون من نسيجها الناعم ، ويفوح عبيرها في ردهات البيت ، يخيل لك أنها عصا موسى السحرية ، تقلب كل الصور الباهتة إلى محض خيال ، متوقدة النشاط لا تكل ولا تمل ، مفعمة بالمرح والحيوية ، وفي المرات التي تغيب الابتسامة عن ثغرها الضاحك يقوضنا الأسى ، ويتنحى كل منا ناحية يكتنفها الغموض ، نخشى أن نخترق الفم المقفل فنصاب بخيبة من حقيقة مرة كسطوة ملل تقطع الطريق على روتين حياتنا المريح ، نخشى ارتداد إقبالها علينا فتثبط عزيمتها على حين غرة فيختل ميزان البيت ، ولهذا كنت أسمح لزوجي أن يمنحها شيئاً من كرامته وبعضاً من ودّهِ حتى نذيب هذا التهجم على وجهها ، هذه هي غريمتي ...عفواً خادمتي ( ماري ) .
بعد أن افتضح أمرها مع زوجي طردتها من البيت وحمم الغضب تستعر في كياني ، وأنغمر في لجة الصراع حانقة أتأرجح بين الصفح والإدانة ، وألقي باللائمة على زوجي ، ذلك الرجل الرزين الذي صارت مبادئه علامة مميزة في شخصه ، اخترته بعد أن آمنت بقيمه ومداركه العالية ، جذبني حبيباً وزوجاً ، ينهار لأوهن ريح وأضعف سيل ، فكل ثقافاته حبر على ورق ، شعارات خاوية المحتوى ، سقطت الأقنعة بعد أن ذوى الكثير من الاعتبارات الكائنة بيننا .. انفصلت عن ذاته بعد أن تحولت إلى مخلوقة مجروحة الكرامة مطعونة الكبرياء ، حاول أحمد أن يلم ما تبعثر من هذه القيم ويبرر فعلته بنزوة ، لكن مخيلتي تشير بأصابع واثقة أن لهذه الوقعة جذوراً وليس كما يدعي وليدة لحظة آنية .
تركت هذه لواقع شرخاً عميقاً في نفسي يكاد يطفئ هذه الهالة التي رسمتها لزوجي ، انهارت كل أحلامي فجأة حينما ذوت بهجة الهيبة في شخصيته المتعالية ..عشت لحظات كئيبة ، تسبح غمائم سوداء في سماء حياتي ، أضناني التفكير حتى الوهن ، وعجزت عن إدراك كنه الحقيقة ..خبا سكوني ، وأنا ألهب غيظاً عندما ألتقط آثارها في ملامحه القلقة ...
دنوت منه وهو جالس في الصالون يتابع نشرة الأخبار :
_ " أظن أن الطلاق حل مريح للطرفين " .
ابتسم ساخراً وعيناه تصفعاني غضباً :
_ " قرارات سريعة وحاسمة ،هذا هو عهدي فيك دائما
حاولت أن أكتم غيظي وأفتعل الهدوء ..
_ " لا تظن أن ما حصل يمكن ...
ارتعد بكل جوارحه حتى صارت نبراته مفزعة
_ " ما حصل قد حصل ، وهذه المرأة بريئة من كل إثم " .
_ " إني رأيتكما في وضع مريب ! " .
_ " أنت تبحثين عن مخرج مريح لهذا المأزق المفتعل
_ " لِمَ كل هذا الانفعال ، إنها مجرد خادمة ، لكن على ما يبدو أن وجودها مهم في حياتك ، والتهمة لصيقة بكما .
....
_ " كانت تخدمني وتوفر لي سبل الراحة في وقت كنت تأنفين من ذلك ..
أحسست به فوهة مدفع يرشني بكلمات نارية لا أستطيع صدها ، ربما لا نشعر بحقيقة الشيء إلا عندما يقف النقيض بمحاذاته ، هذا الهاجس الخفي يلهج بروحه حينما يلمس التباين في المعاملة فأدرك أين تكمن راحته؟ أدرت ظهري حينما عجزت عن احتواء غضبه ، بدا منهاراً ، يفتعل المواقف ليصب جام غضبه علي ، لا بد من تدليله ، ينبغي أن أفعل شيئاً يمتص نقمته ، أخذت إجازة وجاهدت نفسي حتى أعيد للبيت نظامه المعهود وأدفع بعجلة الأيام كي تدور في نسقها المتناغم مع أحلامنا وأمنياتنا ، تركت للحيطان الصامتة أن تثرثر وأنا أصف بجانبها نباتات داخلية تعانقها في لحمة فنية رائعة نتسامر في ظلال وريقاتها الوارفة ، أهمس في أذنيه :
_ " ما رأيك بهذه الأشجار ... لقد اشتريتها صباح هذا اليوم ؟ "
أجاب باقتضاب :
_ " لا بأس بها .." .
بدا بارداً ، شارداً ، غضوباً ، أثار قرفي واشمئزازي ، فلم أعد أحتمل حضوره الغائب ، قطعت إجازتي وعدت إلى عملي لأذيب نفسي في الآخرين ، لأن من أحبه أعرض عني صامتاً ، لا بد أنه إنسان مريض ، فقد اتخذ سلوكه طابعاً عدوانياً وأفرط في العزلة حتى أدمنها ، هل هناك سر خفي ينطوي عليه ؟ ربما كان مسحوراً ، هذه
Copyright ©2010 - 2011 zankalooni.hooxs.com
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات زنكلوني®
تتمه ..
القروية الساذجة قد أسقمته سماً زعافاً فراح يجري في عروقه مجرى الدم ، يا إلهي كيف أرضي شيطانه وغضباته المرهقة للروح ؟ اتجهت اتجاهات خاطئة لا تحترمها عقيدتي ومبادئي لأفك عن رقبته هذا الطوق الساخن الذي يلهب أعصابه دوماً ... لكني وبكل أسف فشلت .. ربما هذه الحالة تأخذ وقتاً حتى تذروها رياح الأيام ، سئمت من وحدة ومسحة الكآبة التي امتصت رونقه
فقررت بعد أن أعيتني السبل الابتعاد عنه لفترة ، ربما أصل لقرار مريح يعيد ترتيب حياتنا من جديد ، حزمت حقائبي وأنا أودعه :
_ " سأنفصل عنك لفترة ، حتى يستطيع كل منا أن يحدد طريقه ! " .
رمقني بطر حزين :
_ " افعلي ما تشائين ! " .
قلت بامتعاض وأنا أدير له ظهري :
_ " أتمنى لك الشفاء العاجل ! " .
واستغرقني التفكير حتى ذوى عودي وانفرطت كل أعمالي ، فمزاجي الكئيب الذي يحتد كلما لامس وخزة مؤلمة صار الصفة الموسومة في شخصيتي ، انطويت على همي صامتة تأكلني الأفكار والوساوس ... أتُراها عادت إليه ؟ ربما كان يفتعل الأسباب ليوثق صلته بها ، هل ما فعلت كان صواباً ؟ هجرت البيت حتى يستعيد وعيه ، تحاملت على نفسي واتصلت به مرات عدة وأنا أشد في أعقابي أذيال الخيبة والإذلال ، فبرغم ما حدث يأسرني الواجب ويحملني عبء المسؤولية تجاهه ، لكن خذلانه يوجعني ، وإهماله يقتلني ، حاولت مداراة الموقف بلسان رطب جميل ، ووالدتي ترقب هواني بقلق و خوف وأن أبذل قصارى جهدي لأطوق مشكلتي في دائرة ضيقة حتى لا تتسرب فيتندر بها الأهل والأصدقاء ، أوهمت أمي أن ثمة خلافاً بسيطاً احتجت على أثره خلوة مع نفسي كي أصل إلى حل ، وأفلت على هذا السر ، حتى لحظات انهياري أداريها خلسة عن العيون الرقيبة .
وأستعيد الصور من مخزون الذكريات ، وأسترسل في البوح مع نفسي ، بما أستطيع التقاط العلة التي قصمت ظهري وأوردتني موارد البؤس والشقاء ، لم يعد إقبالي على الحياة موسوماً بالبهجة والبشاشة ، بل قد تعثرت الخطوات وتشتت الخواطر ، فرحت رغماً عني أعتذر عن الأمسيات الثقافية والندوات متعللة بالمرض ، تكومت على حزني وأنا أجتر اللحظات المؤلمة بصبر وأناة ، يتضرج الغضب في صدري حتى خلته الصاعقة المدمرة لبقايا الذكريات العذبة التي كانت تقبل علي في هدوء ، وتزيح تلك السحابة السوداء الطارئة ،ث تأخذني اللحظات الشاردة على جناحي الخوف والقلق ، فربما يتغشاني موج يلقيني في قعر الضياع ، تضربني مرساته بقوة لتدنيني من العدم ، فأصرخ في لجة الحرمان طالبة إغاثتي ، لا أحتمل الهجر ، لا أسمح لهذه الخاطرة أن تدنس حتى الأماني الكاذبة ، محال أن يوقع علي يمين الطلاق ... كلما رن الهاتف أعدو إليه كالمذعورة وقلبي يرتجف كعصفور حبيس في قفص وأطرافي ترتعش ، تنحسر الأمنية ويخذلني الصوت ، فليس هو من أنتظر ... لقد انقلب السحر على الساحر ، كنت في أوج تألقي وكبريائي أرفع هامتي في غطرسة وغرور ، وكأني ألقي له فتات الرضا ، لعله يرضخ صاغراً وذليلاً ، احتجبت عنه ظناً مني أن الغياب سيشعل في قلبه فتيل الشوق ، ليعربد الحب خفاقاً من جديد حينما تطحنه لحظات الفراغ وغياهب الليل الموحشة ، لكن ظني كان كالسراب يحسبه الظمآن ماء ، فقد خانتني الخيالات وأشعرتني أني أبعد الناس فهماً لشخصيته ، لم أكن أحسبه عنيداً بهذا الشكل ، أنكر سنين الحب وأيام العشرة ودفء اللحظات ... انسابت دموعي وأنا أطوف وحدي في غرفتي الخالية أسامر حيطانها الصماء كم أوحشني صوته ، إن في قلبي لوعة تكويني ليل نهار ، غموضه أربك تفكيري ، بدأ الخوف يتسرب إلى نفسي وتعشعش داخلي شتى الوساوس ، ربما قرر طلاقي ، لعله يخطط الآن للارتباط بــ ( ماري ) ، آه هانت علي نفسي حتى أقارنها بخادمة ساقطة ! بت أخشاها ، نعم يجب أن أعترف بهذه المفارقة التي أشعلت في صدري نيران الغيرة والغيظ ، لكني لن أسكت على هذه المهزلة ، لن أغفر لهما أبداً ، سأقلب الدنيا رأساً على عقب ، يا إلهي هل جاء ذلك اليوم النحس الذي أرى فيه نفسي مرتعدة من خادمة ؟ هل بلغ بي الهوان إلى هذا المبلغ ؟ هل أرضخ لواقع أشد وقعاً على نفسي من اشتباه الخواطر ، سيسخر الناس مني ، ستلوك الألسن سمعتي ، سأكون مضغة في فم كل حاسد ، ستقوّض هذه المشكلة كل نجاحاتي وتحولها إلى قصاصات ورق مرمية في المزبلة يتندر فيها كل الناس ، لا شهادات ، ولا جوائز تقدير ، كل بيارق التفوق والتي هي حصاد السنين الطويلة ستخبو بخذلان وحسرة .. لم تعد أكتافي الصغيرة تحتمل كل هذا العبء الكبير ، فرحت أنفس عن كربي بالصراخ والبكاء ، بت لا أطيق أي صوت ينطلق في المدى ، أحسبه يخترق أعصابي فيمزقها ، يشتتني في انزعاج كبير ، يدوس فيّ فرامل القلق ، نضب إحساسي بالأمان ، فأفعالي بانت متذبذبة تنضح عن باطن موبوء بالهم ، أقرر وأناقض نفسي ، أسترسل في حواري حتى أقف مشدوهة للحظات ، فقد تشتت الفكرة فجأة ، أنسى من أين بدأت وكيف انتهيت .
اختلطت علي الخواطر فور أن نخر الضعف بؤرة في جدران نفسي ، تنتابني بين لحظة وأخرى نوبات عصبية مجنونة تدفعني إلى ضرب ولدي دون مبرر ، رهفت عواطفي وبلغت حساسيتي الذروة ، خصوصاً عندما تلامس طيفي كلمات أحمد الدافئة وهو يحنو على الخادمة ، ليته يرحمني ، ليته يتصل بي ويعتذر عن فعلته ، لوجد في قلبي محلاً للصفح والغفران ، أرهفت سمعي إلى صوت الجارة تحدث أمي عني تنقل إلينا الإشاعات والأقاويل
Copyright ©2010 - 2011 zankalooni.hooxs.com
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات زنكلوني®
تتمه ..
متسائلة في تطفل ( هل سوسن مطلقة ؟ ) ولم أترك لأذني أن تلتقط إجابة أمي ، فثورتي حركت كل أعصابي وأفقدتني صوابي ، خرجت كالنمرة الجريحة أستعر بلظى الجراح أمزق هدوء خلوتهما وأصرخ مرتعدة :
_ " مالك أنت وحياتي ؟ " .
وجدت نفسي أرتعش في غيظ ، تسمرت المرأتان في مكانهما ، فالدهشة ألجمت لسانهما ، حدقت المرأة في وجهي طويلاً مشدوهة ، باغتني قولها :
_ " عفواً يا ابنتي ، إنه مجرد سؤال لا يحتمل أي تفسير يسيء إليك "
الموقف شل أمي عن الحركة ، بدت مبهورة ، محرجة ، تخنقها دهشة اللحظة ، لملمت المرأة أطراف عباءتها لتنصرف ، استوقفتها أمي معتذرة تحاول جهدها ترطيب الموقف ، تارة ترمقني بحده ، وتارة توجه لها وجهاً مطرقاً ، حرجاً ، لكن يبدو أن الجارة تركتنا وكأنها تهرب من الجحيم ، وارتميت على الكنبة أبكي بحرقة ، جاء صوتي مخنوقاً تنبعث أصداؤه من كيان جريح ( أشعر بالإهانة يا أمي ) .
جلست أمي بقربي تحوطني بذراعيها الحانيتين :
_ " أعرف كل ما يعتمل في باطنك يا سوسن حتى لو التزمت الصمت من جانبك ، قلبي يحدثني أن مشكلة كبيرة بينكما ، لكني آثرت السكوت ريثما ألمس منك المبادرة .
أحسست بحاجتي إلى الحنان ، إلى من يشاركني معاناتي ، ويتغلغل إلى بوحي الخافت ، لينفث همس الدفء في عروقي الجافة ، لتنهل نداوة الحب وتنتفض فيها رعشة الحياة ... ذرفت المزيد من الدموع ، وكأن في داخلي ساقية مترعة بالحزن لا تنضب أبداً ، أهتف وصوتي يتهدج ( ضميني يا أمي فأنا بحاجة إلى صدرك )
تفجر نبع معتق بالمحبة يطوف في دنيا غربت عن شواطئ حياتي ، قد أسدلت عليه جفنين مهدّلين شاخت ملامح البهجة فيهما .. توق جارف من الحنين إلى زوجي ، فقد أوحشتني لياليه وأيامه ، إنها أسبق إلى نفسي من كل أفعاله ، رنوت إلى وجه أمي وقلبي يخفق بشدة :
_ " لقد اشتقت إلى أحمد يا أمي " .
مسحت على رأسي وكأني طفلة صغيرة وهي تستطرد :
_ " ولم المكابرة ؟ "
استرجعت الحادثة وكل صورها تتداعى في مخيلتي وتتوهج كوميض برق خاطف .. أبتلع الغصة في مرارة ... يتهدج في صوتي في تمتمات متقطعة يغلب عليها الانهيار :
_ " إ ني أعيش صراعاً متناقضاً مع نفسي ، وليتني أرسو على شاطئ الاستقرار "
أطرقت صامته ، فقد انفرط هذا السر الذي طالما خبأته في صدري ، كل صور التمويه فشلت ، فسكوني الحزين قد رشح انبعاثاً عدوانياً عندما لامست رماده هبة ريح خفيفة لتكشف عن باطن يلهب بجمر الحرمان و الأسى ، وقد عرفت أمي كل شيء دون أن أنبس بحرف ، حدس الأم لا يخطئ ، قالت وهي تمتص غضبي بلمساتها الحانية على شعري :
_ " لا أريد أن أخوض في تفاصيل المشكلة يا سوسن ، للكن لا ضير في احتواء المسافات الفاصلة بينكما ، ومن يتقدم خطوة يكسب في النهاية " .
تركتني في حيرتي ووجومي أقلب في ذاكرتي كلماتها ، لربما هناك حلقة مفقودة تحتاج مني إلى نوع من التدبر والدراية ، شيء مبهم أسقطته من حسابي وأنا في وهدة الآلام ، فعدت رغماً عني استرجع صفحات الماضي القريب لأشق في ليل العتمة ضوءاً باهتاً يدفعني إلى الحلم حتى ألج في عباب الفكر السارح ... تدهشني الأقدار القاسية وهي تكيل لي الضربات الموجعة ، وألين من جانب حتى أحتفظ بهذا الوثاق قوياً ، أحتمل الصفعات المهينة بإذلال و أنحني لعاصفة الواقع المريرة ، لأنها قادرة على اقتلاعي من الجذور ، سأفتعل سبل الإصلاح كي لا أدع له حجة في حل رباطنا المقدس .
سأتصل هذه الليلة ، سأحاول أن أغرس بذرة مبادرة من جانبي لعله يفيق من هذا الجنون ، أدرت قرص الهاتف والهلع يمتص دمائي ورجفة تسري في أوصالي ،يرن الهاتف للحظات فيأتيني صوته دافئاً ، وقوراً كعادته ، قالها مرتين آلو ، آلو وبهما أحسست ضيقه وتبرمه ، ولم أرد ، فقد تجمدت الدماء في عروقي ، وكأني لأول مرة أسمع فيها صوتاً حبيباً إلى نفسي ، ازدردت ريقي وأنا أحسم قراري ، ألقيت السماعة إلا من أنفاس لاهثة مزقها التردد والخوف ... فكرت في صمت ، الآن قد عرف أنني المتصلة ، هكذا كنت أفعل أيام الخطوبة حينما كنت أمازحه ... انتظرت لحظات ربما يستجيب الآن ... تعلقت بحبال الوهم الواهنة أنسجها من وحي خيالي وأحلامي ... جلست قرب الهاتف مطرقة أشفق على نفسي البائسة ... مرت اللحظات ثقيلة الوقع على نفسي ، حتى أيقنت أن ما انتظره أضغاث أحلام ، تسرب اليأس إلى نفسي .. اختلطت عليّ الأوراق ، ما عدت قادرة على موازنة الأمور ، اشتبكت كل أفكاري في تداخل عجيب .. صرخت وأنا في حمّى هذا الصراع ..... ( لا أريد أن أفكر .... لا أريد ) ... وهجمت على الهاتف لأتصل به لأصرخ ملء قهري ( أيها المعتوه المغالط ... المتكبر .. من تظن نفسك ؟ )
أدرت قرص الهاتف وأنا لا أكاد أسيطر على أناملي المرتعشة ، جفت الدماء في عروقي ، النمرة كانت مشغولة ، ... حاولت ثانية وأنا أشد تحدياً لنفسي ( هذا الأحمق ... قد شغل الهاتف ) وأعيتني كل المحاولات ، فانهارت كل
Copyright ©2010 - 2011 zankalooni.hooxs.com
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات زنكلوني®
تتمه ..
أحلامي وتبددت كل قوتي حتى صرت أشلاء .. ما عدت قادرة على الصبر ، فقد رشقني زوجي بسهام الإهمال والتجريح ، وأنكر العهد الذي قطعناه معاً ... تصدعت أنوثتي من الداخل من صميم كياني ... ذابت كل مشاعر الثقة ، ولم يبق فيّ سوى مساحة جسم أخرق تلونه صبغة صفراء ... ارتشفت المرارة كل يوم .. وعينان باهتتان أرقهما السهاد وخاصمهما الكرى فغارتا في تجويف سحيق يرتعبان ، تطبق عليهما المقلة في حذر ، يترقبان تلك الذبالة الخابية ليشتعل الحب من جديد ، فاليأس يتكوم فوق رأسي كسحب سوداء تنذرني بصاعقة تزلزل حياتي ، وأنا أشحذ همتي لأصمد وأدفع عني هذا القنوط بما تبقى لي من يقين ، فبت أجفل من إرادتي الخائرة ، خذلتني في أحرج اللحظات ، ..فقوتي للأسف ما كانت إلا فقاعة عائمة في الهواء سرعان ما انفقعت لتكشف عن حقيقة غائبة ذوّبتها مواقفي التعسفية العنيدة ... لقد أطلقت رصاص الإعدام على صرح بيتي فهوى...كنت أترك قلبه الصادي عرضة لنسمة تتسلل إلى جدرانه الهامدة لينتعش فيها الشعور .. بسمة الصبح الندية انطفأت تحت ركام المسؤوليات الملقاة على كاهلي ... همسة الليل الدافئة فترت كلما دب الخدر في أطرافي ، أتقلب في المخدع مثقلة بالهموم ، تجرحني تحديات مزعجة عشتها صباح يومي .. طبق المحشي الذي تفننت به في بواكير زواجنا قد أهملته ، كان أحمد يميّزني به عن كل النساء ، أنت متخصصة في طهي ألذ طبق عندي ، لا أحد ينافسك فيه ، انتقلت الصنعة إلى الخادمة وأتقنته بمهارة ، بل أبدعت فيه إضافات جديدة ، وسحبت نفسي من هذا العبء التافه ... أيام الجمع حيث ملتقانا في حضن البيت طوال اليوم يمازحني أحمد ونفثة الحرج تتوارى خلف لسانه ( أشتهي اليوم طبق المحشي من صنع يديك ) أمتعض مدبرة ( إني مشغولة في إعداد هذا البحث اطلب من " ماري " أن تصنعه لك ) يلوذ صامتاً ودهشة باهتة تظل عالقة على وجهه ... لم يخاصمني في شيء ... يتركني كما أنا بمزاجي وانفعالاتي وسجيتي ... وأظن صمته لم يكن إلا تراكمات ترسبت في أعماقه على مدى السنين ، وطفت على السطح ، كما تنبئني به هذه الحادثة ... كانت الصديقات يحسدنني عليه . زوجي رجل متفهم استطعت ترويضه بذكاء وحنكة ، وكن يسألنني عن السبل الناجحة في معاملة أزواجهن .. لم ندخل يوماً في خناق ، لأنه كان طيعاً ، ليناً ، هيناً ، واستمرأت وداعته حتى انقطع حبل الحوار بيننا وأنا أغوص في دوامة العمل والنشاط ، لا أترك لحياتي الأسرية محطة أفرمل عندها اندفاعي ، لأبحث في هذه المتاهات المتناقضة عن أحمد الرجل الذي يعيش في خلايا دمه كائن بدائي تواق إلى أنثى تشبع فيه الوجدان والإحساس والروح ، فحواسه كلها نضبت وافتقرت ، وتبرعم فيه هذا الإحساس المتطفل الذي نما دون إرادته ، ليلتف على أقرب جدار ، انجذب إلى هذا المناخ الدافئ الذي تربو فيه الأغصان وتزدهر فيه السواقي المجدبة حينما جفت سماؤه عن الهطول امتدت جذوره إلى أقرب بئر ينضح نداوة استسقى من معينها حناناً وملاذاً ، خصوصاً في لحظات مرضه أياماً تركته شاحباً ، ذابلاً ، تتساقط حبات عرقه لفرط الحمّى ، أنهره غاضبة لأبرر هروبي من المسؤولية ( قم وانهض ، ما هذا الدلع ، ؟! إنها أنفلونزا بسيطة ) . يسحب الغطاء على وجهه صامتاً ، أهز كتفي غير مبالية ، آخذ حقيبتي ومفتاح سيارتي لأغادر المنزل ، وفي طريقي أحدث " ماري " ( أصنعي طبق الحساء للسيد ) . وأعدو لدنيا أخرى .
عبرات مفعمة بالأسى ظننتها قد تلاشت بفعل الألفة والروتين ، هذه هي الحقيقة ولا أبرئ نفسي من الإثم ، ... طمست أنوثتي واختبأت في بيت العنكبوت ، نسجته من وحي هواجسي وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت .. أستطيع الآن اقتحام الأغوار البعيدة ، وأتحسس مكامن الأمور ، وأمزق أغلفة الصمت لأدين نفسي وألقي تبعات الموقف على كاهلي .. الأنثى ريحانة البيت ، ينبغي أن تبعث الحنان والعاطفة في نفس الأسرة ، نسيت أن زوجي رغم كل مبادئه وقيمه وسعة أفقه رجل عاطفي ، حينما يخفق في عزمه يبحث عن امرأة حنون تمد له يداً رقيقة ناعمة ، تطيّب جراحاته وتسكن آلامه ، ومهما تسامى في مداركه تظل في نسيجه شحنة جاذبة ومنجذبة لأقرب أنثى تحتوي أحزانه وتهدهد أحلامه ، ألا يكفي فنجان الشاي المعطر بالنعناع تسقيه إياه صباح كل يوم ، وابتسامتها تسبق يدها ، بينما أغط أنا في نوم عميق .. تنهض مع ابتسامة الفجر وعندما يتسلل ضوء الشمس إلى سطوح النوافذ ، تأخذ حمامها اليومي ، فأريج الشامبو يفوح من شعرها الناعم ، يبدو وجهها منعشاً رغم افتقاره إلى الجمال والتناسق .. تختمر كل هذه العوامل في نفس زوجي في انسياب وديع يذكيه رضوخها واستسلامها ، فتبدو طوع بنانه ، رهن إشارته ، جارية مشتراة ، فمن أجل سيدها ترخص أمام قيمة واحدة وهي رضاه عنها .... فهمت إشارته وأحست بإيماءاته ، تكون لها رادار خاص بفعل الألفة الصباحية والمداراة اليومية ، حتى عرفت احتياجاته كرجل ، وفهمته روحاً نابضة بالرهافة ، فاستحوذت عليه تماماً وأنا نائمة في الحرير ، يا لعجزي .. .. يا لفشلي .. ما أصعب على الإنسان أن ينبش في جرحه ويستثير آلامه الكامنة .. كثيراً ما نعرف الوجع لكننا نتشاغل عنه ونطرح عليه غلالة قاتمة حتى لا نواجه العلة ونسكّن أوجاعنا بأوهام نطلقها من اجترار اللحظات ، كي تتحول بفعل التواتر إلى سكون واعتياد وألفة ، بيد أن هذه البؤرة تكبر وتتسع لتفرز السموم والمضاعفات التي تفك لحمتنا وملامح رباطنا المقدس ، ولا تنفع كل المسكنات في تهدئة الوجع وكتم الصرخة ، فظننت أني بترت العلة حينما طردت الخادمة واستعضت عنها بفراغ موحش يدمنه حتى امتصاص الألم ، فكان ظني ساذجاً و وهمي هباء ، فالداء ليس في الخادمة إنما فيّ أنا ...نعم أنا بغياب أنوثتي .. بفتور إحساسي .. ببلادة مواقفي ... كل شيء فيّ أخاله مبعثاُ للنفور والجفاء .. أنا من تحولت إلى قمة من الجليد شاهقة بعيدة يصعب على المرء النزوح إليها ، فقد جفت الحياة فيها ، لأنها خلت من النماء والرواء ... أنا من خنت العهد والميثاق ... آه ما أشقاني وأنا أدور حول نفسي في تيه وشرود ، أخشى أن أخسر زوجي وحياتي ، فأضيع في متاهات السنين .. لم تعد لي رغبة في العمل .. لا أملك القدرة على اتخاذ أي قرار كل خططي مبعثرة .. يقلقني هروب الأيام واندثار الساعات ، ما زلت أتدارك اختطاف الهنيهات من أصابع الزمن المختلسة ، لن أسبح ضد التيار ... سأنساق طواعية إلى رغبتي ، سأعيش أصدق حالاتي ، سأشق درباً بين نقائض حياتي ، هذا الباب الذي فتحته على مصراعيه ليدخل موج مدمر إلى زواجي فيفتك ميثاقه سأوصده ، سأكون امرأة تأتي من زمن جدتي ، أمهاتنا الصبورات الطيبات اللاتي ينضحن حناناً ورقة عشن حياتهن في بساطة ودعة وسكون ، لا تقلقهن الأماني البعيدة ، ولا تخطف أبصارهن أضواء الثريا عن ثرى الواقع ، هذا هو أعظم قرار اتخذته في حياتي ، نعم سأعود لأحمد شاحبة ... منهارة ..مطرقة خجلة ..وجهي خال من المساحيق.. ممتقع .. يفتر فمي عن ابتسامة منكسرة تقطر ظرفاً ورقة ، قررت العودة إليه منطفئة البريق ، .. خابية الحيوية .. قد أضناني الشوق وأرقني السهاد ، أحمل في ملامحي اعترافاً موثقاً بدمي وجروحي ..
اتصلت في البيت عله يجيبني هذه المرة ، فأنا الآن في أروع حالاتي وأشد استعداداً لتسوية المشكلة ، رن الهاتف فما من مجيب ، عدلت عن البيت وطلبت المكتب ، قالت السكرتيرة : إنه مسافر! صعقت في مكاني وسماعة الهاتف تسقط من يدي ، يغمرني الذهول والدهشة ، تسمرت في مكاني كأن الحيطان تحولت فجأة إلى أشباح سوداء مخيفة تسخر مني ، تقهقه في شماتة ، شيء أشبه بغمامة تسبح فوق عيني عجزت عن فهم ما يحدث حولي .... صوت خفيض يأتيني من المدى ، يخترق رأسي ، فيشعرني بدوار وأنا مشدوهة ، ينفرج ثغري عن ضحكة ميتة فارقت نشوة الحياة منذ لحظات .
Copyright ©2010 - 2011 zankalooni.hooxs.com
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات زنكلوني®
تتمه ..
( سوسن ... سوسن .. ما بك يا ابنتي ؟ ) .
أتشبث بأذيال الوهم وتمتمات تختنق في حلقي ، أكاد أغص بها :
_ " لقد تركني أحمد يا أمي .. هجرني إلى الأبد ... "
لكن ما بداخلي بركان يغلي وكياناً يستعر في لظى الغيظ والإذلال .. آه أيتها الأيام خضّيني حتى أرشح قطرات الحزن وأنفض عن جناحي رماد الأسى .. ينكفئ قلبي في ملالة وضجر ... تشتد علي المحنة فيأكلني الهزال ،
وأفقد شهيتي لكل رغائب الحياة فالخيط الأخير الذي أوشك أن يشدنا لبعضنا قد انقطع ، فانفلت الزمام وطاشت الذكريات في لمح الخيال ، مفارقة غريبة في حياتي لم تكن في دائرة الشك يوماً ، فما بالها الآن قد صارت يقيناً ، لقد نفذ صبري وذوت مقاومتي ، فانهارت أعصابي وتساقطت كأوراق الخريف فوق جسد أكلته أفواه الأيام الشرسة .. مثقوب .. منهار .. تتكوم عظامه في بؤس .. أتهيب شبح الطلاق ، ورهبة الهجر، وخسارة رجل تهتز الأرض تحت أقدامه ، رجل أحبه ملء عقلي ، ملء إرادتي ، ملء قلبي وإحساسي .. هكذا يفعل بنا الرجال .. إحساس مشروخ في عمق الأنوثة يبتر فيها توأمة روحية ، فيعربد فيها الحب والخوف ، إخفاق وشرذمة تمتص مداد الروح الوثابة فتجعلها كياناً ناقصاً مبتوراً ..
لم أفق إلا على صوت أمي تقف إلى جانبي وأنا ممدة في السرير ..و .... و .. يا للمفاجأة أحمد بجانبي، أطلت النظر به لأستوثق منه ، ربما كان محض خيال تصنعه رغباتنا الدفينة ، أتلفت حولي لأهمس في صوتٍ واهن :
_ " أين أنا ؟ "
تمتد ذراعا أمي لتحضنني وأنفاسها الهلعة تفزعني .. ثمة مكروه حدث لي !
_ " أنت في المستشفى يا ابنتي .. لقد كنت مجهدة "
لم أصدق كأني فقدت الذاكرة .. صحت قائلة :
_ " ولكني لا أتذكر أي شيء "
استطردت وهي تطرد شبح القلق :
_ " لقد أغمي عليك فجأة فاتصلت بأحمد ليقلك إلى المستشفى ! "
حدجته بنظرة فاحصة ملؤها الشوق واللهفة والعتاب ، تنهدت وأنا أخفي عنه وجهي ، بينما خرجت أمي متعللة بقضاء حاجة خارج المستشفى .
اقترب أحمد وجلس بجانبي وبدت لهجته حانية رقيقة :
_ " سنعود إلى البيت معاً "
أعرضت عنه أنا أبكي وكلماتي تتحشرج في حلقي
_ " لم فعلت كل هذا بي ؟ "
أطرق مستطرداً
_ " كان يجب أن أفعل هذا "
ارتعدت أعصابي من فورة الغضب
_ " إذن كنت تتعمد إذلالي ! "
_ " بل حرصت على إشعال فتيل الحب قبل رحيل الأوقات واستحالة الأماني "
شلّتني المفاجأة .. أربكت تفكيري .. قلت وأنا أبحث في عينيه عن آثارها :
_ " وماري أين هي الآن ؟ "
أردف بمرارة :
_ " كانت منعطفاً فاجأني وقت انسياب مشاعري في مرارة الوحدة ... هي الوجه الذي كان يباغتني دوماً عندما كنت أهرب من لسعة الفراغ "
تصاعد لهاثي المحموم ووخز الغيرة يدب في منابت جذوري حتى العظم
_ " إنك لا زلت تحبها أحس بأنفاسك ولوعتك "
قاطعني ساخراً
_ " انظري إلي جيداً هل هناك علامات تشير إلى ذلك ؟!
قلت وأنا في قمة غلياني
_ " أنت مزح ؟ "
نهض وهو يساعدني على إعداد حقيبتي لنعود إلى البيت فور انتهاء الإجراءات اللازمة في إدارة المستشفى .. استوقفته ..
_ " أحمد "
التفت إلي : " نعم "
_ " لم تخبرني إلى أين سافرت ؟ "
_ " إلى البحرين "
الشك يساورني يقلق أعصابي
_ " وماذا فعلت هناك ؟ "
_ " أنجزت بعض الأعمال التجارية "
قلت وصوتي يختنق بنشيج حزين يترنم في نغماته الخابية :
_ " أتمنى أن أصدقك .. أتمنى أن أعود كما كنت سابقاً هادئة مطمئنة .. أتمنى ..
خبأت وجهي بكفيّ المرتعشتين وأنا أذرف الدموع ، حاول أحمد امتصاص لوحتي واحتواء حزني فأردف
_ " قضيت ليلتين هناك فقط ، ثم اتصلت بي أمك لتخبرني عن مرضك "
قاطعته معنفة
_ " تركتني فريسة للعذاب .. حطّمتني ..ليتني مت .. ليتني مت ...
شدني من ذراعي وهو يصرخ في إشفاق
_ " لا تقولي هذا أرجوك فأنا أحبك .. أحبك وسآخذك في رحلة رائعة تجددين فيها نشاطك وحيويتك .
هدأت بعض الشيء ، فكلماته الدافئة قطرات ندى فوق جروحي الناتئة ، قضينا الوقت في إنهاء أوراق الانصراف من المستشفى وشراء بعض الأدوية المهدئة ، ثم ركبت سيارته وجلست بجانبه بعد رحلة طويلة من الحرمان خلتها دهراً من العذاب ، آه ما أجمل هذا العرش فهو يزدان في النفس كقلادة تهديها السماء لكل امرأة .. أدار أحمد مقود السيارة ناحية الشارع المؤدي إلى بيتنا ... لا أصدق نفسي ، هل أعود ثانية إلى ظلال الحب الوارفة وربوع السعادة المترعة بالحنان؟ .. .. سألته وقد امتلأ صدري بأريج السماء يتناثر فوق جلدي فتبعته خلايا دمي الظمأى .. سألته والفرحة تغرد في قلبي كطير شادٍ :
_ " وأين طفلي جاسم ؟ "
قال وهو يمسك كفي بكفه
_ " لقد سبقنا إلى البيت فقد اتفقت مع والدتك على أن تسبقنا معه إلى البيت "
سألته بلهجة رطبة لينة يتغشاها الدلال :
_ " هل تحبني يا أحمد ؟ "
تنهد بحرارة وكأنه يشد خباياه إلى الأعماق :
كل الحُب .. كل الحُب .. كل الحُب .
وقفت السيارة أمام بيتنا فقد فاض شوقي إلى كل شبر فيه ، عدت إليه كما لو كنت شريدة طريدة عن الوطن ، عدت إلى السكن ، إلى عش كل امرأة تبحث عن شرنقة أبدية تحميها من دنس النفس ووسوسة الصدور ، عدت لأحتمي ببيتي من الظنون التي تدخلني في متاهات مقفلة كادت أن تقطع علي الطريق وتوصد أمامي باب الأمل ، فخلاصي هنا في هذا الوعد الجميل مع رفيق العمر نحفر معاً ملامح الحب في وجه الزمن ، ونرأب الصدع ، ونجتاز المحنة بصبر وإيمان .
قال لي وهو يدير أكرة الباب :
_ " لا تظني أنك مكسورة الوجدان ... واهنة النفس .. فكبرياؤك وشموخك يصونهما قلبي ويحفظهما عهدي ، ولكن رغبتي الدفينة أن أراهما لك درعاً خارج الدار انزعيهما عنك فور دخولك البيت ، فلهفتي عليك امرأة تلهج حناناً ورقة ، زوجة ترقد في الأعماق ، تتهافت عليها نفسي عندما تخفق في قلبي أجنحة الحب ، فهيامي بك لا تدنسه هذه الصغائر ، ولا تبدده الهواجس ، كنت أحتاج هذه المداخلة القاسية في حياتنا كي أذيب جليد الصمت بين قمتين متباعدتين ليمتزج الضميران أنا وأنتِ ، لا تخترق لحمتنا هفوة تمزق مساحات الاغتراب .. تذكري
Copyright ©2010 - 2011 zankalooni.hooxs.com
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات زنكلوني®
تتمه ..
دائماً أني أحببتك شفافة ، صافية ، أستشف خباياك من همس عينيك ، أبحث فيهما عن هذا الانعتاق الجامح الذي اجتث جذورك ، فبقيت هائمة في السحاب .. " .
تركني مأخوذة بكلماته .. لا أحرك ساكناً .. وعندما دخلنا البيت صفق الباب وهو يستطرد :
_ " هنا سوسن الوديعة .. الناعمة التي تمس رقتها شغاف قلبي وتملأني إحساساً بالهناء والسكون ... وخلف هذا الباب سوسن أخرى فيها من القوة والإرادة ما يجعلها نجمة عالية لا تطولها الأيدي ...بل تشرأب لها الأعناق احتراماً وإجلالاً " .
تناهى إلى سمعي صوت أقدام صغيرة ، حدثني قلبي أنه طفلي ، يأتيني والفرحة تغمر روحه المبتهجة ، يدفع إلي بدمية صغيرة يقلبها بين يديه .
_ " أمي انظري هذه اللعبة اشتراها لي والدي " .
أحطته بذراعي ، أضمه حتى أكاد أصب فيه ذوب روحي ، ونثرت قبلاتي العطشى فوق وجهه الذابل ، لقد أهملته ، أسقطته من دائرة المحنة ، تركني همي ساهمة في وحدتي ، فعدت إليه بعد فراق طويل ، فهو بشير الحياة والأمل ... وفرّ طفلي من أحضاني يقفز ، يلعب في مرح سعيد ببيته .. سعيد بأبيه .. سعيد بألعابه .... أطلقت صرخاته جلجلة وإزعاجاً محبباً يفيض علينا حياة وحيوية .
قال أحمد وهو يربت على كتفي بحنان :
_ " أظن أنك جائعة .. لقد أعددت مائدة بسيطة وخبزاً ساخناً يطيب لي أن تشاطريني ملحه ، فأنت نكهة خبزي وملح طعامي .. " .
افترّ ثغري عن بسمة عذبة أشعلت فيّ وهجاً غريباً بدد عتمة قلبي .. وارتخت أعصابي ليسكنني الأمن والهدوء ، اجتمعنا على المائدة كباقة ورد ضمتها آنية في نسق جميل ، تتعانق أطيافنا في بهجة وسرور ، نبحث في بعضنا عن معنى الود الذي يوثق العهد ، ويجدد فينا يميناً غير حانث ...
وهكذا انطوت ليالي الهجر وعاد القارب التائه إلى ملاحه ليرسيه ثانية على شاطئ الأمان .
هذه الحادثة تركت بصماتها العميقة في نفسي لأنها فرضت علي تحولاً كبيراً في حياتي ووسمت روحي بمعان جديرة بالعبر لكل امرأة لم تفهم كنه الرباط المقدس على حقيقته ، وارتضت أن تتمسح بمسوح المتسلطات على رقاب أزواجهن ، يدفعهن الوهم إلى مغالطات ضبابية تعدم الرؤية بوضوح .
تفجر نبع الحب في قلبي ثانية بعد جفاف امتص رونق روحي ، لتنطلق عصافير أشواقي تحلّق في مروج بيتي ، وعيناي ترنوان إلى زوجي بلهفة وتترقبانه بحنان واحترام .
اضافة رد مع اقتباس
Copyright ©2010 - 2011 zankalooni.hooxs.com
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات زنكلوني®
كان على مرمى حجر منى ،، خرج وحيداً رغم الحصار و الاجتياح
يحملُ سلاحه و قلبه العاشق للارض و الوطن ،، لم يحتمل رائحة الغدر فى المدينة فخرج ،، و لانه وحيد ،، و لان الشوارع واسعة جدا و الطيران لا يهدأ ،، أُصيب برصاصة
فرقع على الارض و استمر ينزف ثلاث ساعات متواصلة ،، و كل محاولات اسعافة فشلت ،،، كان مصيره فى يد الذئاب ،،،
و استشهد محمد ،،، و خوفا على جسده و كمحاولة من اهل المدينة لحماية كرامة الشيهد ،،، خرجت جماعة ترفع العالم الابيض و تم حمله الى بيت جارنا فهو تاجر البان و اجبان ،،، و وضعوه فى الثلاجة ،،،
كان محمد اطول رجل رأيته فى حياتى و اعظمهم ،،،
كل ما فعلته لمحمد هو اننى بكيته و انحنى رأسى امام شموخة و جسده الطاهر
لا احد يتذكر محمد الان لا احد ،،، إلا الارض التى نزف عليها
Copyright ©2010 - 2011 zankalooni.hooxs.com
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات زنكلوني®
************************
عنوان القصة : يومٌ قائظ
تأليف : مرتضى محمد الأمين
************************
" يومٌ قائظ "
بقي من الوقت ساعتان . ساعتان ، لا تستطيع المدينة المفتوحة على الوحدة والضجر أن تملأ منهما ثانية واحدة . كان الوقت ظهراً .. وتربّعت الشمس في قمة السماء كقناص يتربص بضحاياه .. وخلت الشوارع من المارة .. كما خلع أصحاب المحلات والبائعون ابتساماتهم ، وانكمشوا في ذواتهم المغلقة .. ولم أكن أعرف أحداً لأذهب إليه .. فلقد تقلّصت المدينة فغدت ، بالنسبة لي غرفة أسكنها وأخرى أخرى أتلفقن فيها دروساً لا تقنعني جدواها . وتغيب في هذا الصباح أحد المعلمين - ولكم كان غريباً أن يجيئوا ، لا أن يتغيبوا ! – فكنت مضطراً إلى السير في الشوارع على غير هدى في انتظار الحصة التالية .
كان الصمت يرهقني .. ( كانت أيام كاملة تنقي دون أن أتمكن من الحديث إلى أحد ! ) وكاد الحر أن يخرجني عن طوري . وما كان ممكناً أن أمكث في محل تجاري أو دكان أكثر من الوقت المفترض اللازم للشراء أو المعاينة .. وكنت أحس أن حيلتي لا تنطلي على أحد منهم ، وأنهم في ممالأتهم لي في خدعتي إنما يبدون نوعاً من الشفقة التي لا تكلفهم شيئاً مادياً .. وربما كانوا مثلي ، يحسبون في أذهانهم كم من الوقت قتلت هذه المجادلات الخاوية من أي معنى أو هدف .. وهوّمت أفكاري في شؤونها البائسة .. فاكتشفت أن المدينة خالية ، تقريباً من الأشجار .. وأنها تفتقد إلى أماكن التسلية الرخيصة .. وأن مجتمعنا لا يحوي من العدل إلا قليلاً .. وإلا فكيف يمكن أن لا تفطن البلدية وموظفوها إلى هموم مواطن يحتاج ، فجأة إلى مرحاض ؟ .. فإذا كان هذا المواطن في مثل بلائي من الخجل والانطواء ، فإن مأساة تنتظره ... وأدخلتني هذه الفكرة في دوامة ... فتوجهت كل خلايا دماغي التي كانت ما تزال قادرة على العمل ، إلى التفكير بحل شخصي ( وآنيّ بالمطلق ) للمشكلة التي استدعتها بالإيحاء أفكاري .. وتطلعت إلى البيوت النائمة في قلب الظهيرة حاسداً .. وكنت إذا فكرت بالانزواء في مكان ما ، أو في ورشة لأنهي ما أعانيه ، أتخيل جيوشاً من البشر وقد انطلقوا ليملأوا الشوارع والأبنية والزوايا ... أما الوقت فقد تجمد . كل تلك المسافات التي قطعتها ، وعناوين الصحف والمقالات غير المكتملة التي قرأتها في واجهات المكتبات ، وكل المحلات ببائعيها وبضائعهم لم تقتل من الوقت إلا دقائق قليلة . فإلى أين سأمضي ، لّما أن تسعين دقيقة لا تزال تربص على مقدمة أنفي ؟ ..
تزداد قناعتي مع الأيام ، بأن لكل أزمة حلاً لا نتوقعه . وأن هذا الحل الذي لا نسعى إليه لشعورنا بالعجز أو بعدم الرغبة ، يجيء في الوقت المناسب .. تماماً حين نفقد الأمل وتسد بإحكام في وجوهنا كل الحلول المنطقية التي نكون أشبعناها درساً وتمحيصاً .. فها أنا ، في أزمتي التي تكاد تفضحني ، أجدني أمام بناء فخم ... سفارة .. والتمع في خاطري لدى رؤية اللافتة النحاسية ( والتي تخيلتها لاذعة في هذا الحر) اسم شخص أعرفه ............ " خضر " .. يا للصدفة .. منذ أسبوع أو أكثر التقيته ، فأخبرني أنه يعمل في سفارة ما وأن بإمكاني ، إذا رغبت ، أن أزوره في ساعات النهار ... اعتذرت يومها بانشغالي ، وأشرت إلى الكتب التي أحملها .. فسكت محدقاً إلى البعيد .. ثم ، حين لم يعد لدينا ما نقوله في دقائق لقائنا - الصدفة - عاد إلى الإصرار على ضرورة أن أزوره , وضحك حين قلت له أني لا أريد أن أشغله عن عمله .. ثم تطلع إلى ساعته ، واستأذن بالانصراف , هكذا هي الدنيا مجموعة من الصُدف التي نرسم سلسلة متينة من المنطق نسميها الحياة .. لا شيء عشوائياً أو زائداً في حياتنا مهما بلغ من الصغر والتفاهة .. وما لقائي قبل أسبوع بخضر إلا تمهيداً مدروس من القدر لحلّ مشكلتي الحالية ....
كان مدخل البناء فخماً ولم يستوقفني البواب طويلاً ، فأطلق سراحي بإشارة من يده حين سمع اسم صديقي ، قائلاً في تعاطف واضح : " إنه فوق " ... فاتجهت إلى درج أنعشتني برودته ... كانت السفارة تقع في شقة في الطابق الأول .. سفارة صغيرة لبلد صغير .. ولقد بدا خضر في عيني محظوظاً . فعالم السفارات ، لو صحّ ما تقوله الروايات التي أقرأها في نهم ، مشوق وممتع ، ولن يكون في هذا العالم متسع للضجر الذي يحاصرنا نحن ، سكان الجانب الباهت من الحياة .. قرأت اللافتة الثانية المثبتة إلى جانب الباب الخشبي الفخم .. وقرأت كذلك مواعيد الزيارات .. ولم يقلقني كوني أجيء خارج المواعيد المحددة .. فثمة في الداخل صديق ينتظرني .
بدا اسم خضر سحرياً في مفعوله . فانفتح الباب بسرعة ، وأشار رجل مغرق في الجدية إلى مكان فسيح ، فجلست على أحد المقاعد الوثيرة ... ولم انتظر طويلاً .. جاء خضر في صمت .. ورحب بي كثيراً .. ثم جلسنا نتحدث .. فأخبرته أني مررت بالصدفة ورأيت العَلَمَ ، فرغبت بزيارته .. أثنى هو على مبادرتي واستأذن ليغيب دقيقة ، فأذنت له .. وعاد بعد أقل من دقيقة .. وتحدثنا في أدب جمّ .. فلُمنا الأيام والظروف.. وعتبنا على الأقدار .. وتأسفنا على تلك الأيام .. أيام المدرسة الابتدائية حيث التقينا لعام واحد أو عامين .. وكان خضر لا يفـتأ يعتذر ليغيب دقيقة وأحياناً أكثر ، ثم يعود إلي مبتدئاً حديثه من البداية .. فيسأل ،كأننا في لحظات اللقاء الأولى في صدق وحماس عن الصحة و الأهل والأخوة وقد تكرر هذا فأرهقني ... وصرت أتجاوز أسئلته وأعدو إلى المكان الذي انتهى إليه حديثنا ... كانت الذكريات كثيرة .. وكان لديّ من الوقت ما يكفي لاستحلاب تفاصيل الأعوام المبكرة من حياتنا .. فأطلقت العنان لخزين الذكريات الحبيس وضحكنا ، أنا في انطلاق وبصوت مرتفع وهو في ارتباك لا يخلو من الانزعاج .. ولقد انتبهت أن خضر يعود في كل مرة رطب اليدين ، وأنه كان يجلس على طرف المقعد كأنه يتأهب للقيام .. وأن عينيه لا تغادران أبداً باباً في عمق الممر .. كما أن حديثه كان يفتقد إلى التركيز ، واقتصر على العموميات المملة .. وناداه مرة أو متين رجل ما ، فقام مهرولاً ليعود محرجاً .. وكان يصمت فجأة ثم يعود ففجأة يسألني بآلية عن أحوالي وأين أمضي أوقاتي .. ويتطلع إلى حزمة الكتب في شرود .. وعاد الرجل إلى مناداته فأبديت أنا ملاحظة تشير إلى انزعاجي من هذا الإلحاح .. وابتسم خضر مرتبكاً ، ثم اتجه إلى الرجل .. وأخذت أنا منشوراً سياحياً لأتصفحه ، بينما أعملت فكري منقباً عن ذكريات أخرى لأرويها ..
لم يدخل خضر مع الرجل في هذه المرة إلى أي غرفة ، وبقيا في الممر قريبين من باب يؤدي إلى مكان ما , وكان همسهما مسموعاً وواضحاً .. إذ لا يمكن لأية كمية من التهذيب أن تمنع الكلمات من التسلل إلى آذاننا .. وكان الرجل يقول بصوت غليظ زاجراً :
_ " أراك حولت السفارة إلى ملتقى لأصدقائك